شهدت مرحلة العشرينات من القرن العشرين نهضة سياسية بالنسبة للجزائريين فبعد التطورات التي شهدها العالم عقب نهاية الحرب العالمية الأولى و بروز نخبة من الجزائريين من مختلف الاتجاهات من النواب، و المصلحين،و العمال المهاجرين بدأ الوعي السياسي يتبلور أكثر فأكثر بتأسيس أحزاب و تشكيلات سياسية متعددة الاتجاهات من بينها جمعية العلماء المسلمينالجزائريين .
2- ظروف تأسيسه
ظهرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في ظروف متميزة يمكن اختصارها فيما يلي:
- احتفال فرنسا بالذكرى المئوية للاحتلال، 1830-1930 و مارا فق هذا الاحتفال من افتخار بالقضاء على الشخصية الجزائرية، ومن استفزازات من طرف المعمرين خاصة.
- تجنيس كل المولودين بالجزائر من أبوين أجنبيين و إعطائهم إمتيازات معتبرة في الإدارة و الخدمات.
- الاعتداء الصّارخ على الحريات الأساسية للمواطنين و التضييق على الصحافة الجزائرية و المدارس العربية و محاربة القضاء الإسلامي.
- بروز كتلة من النخبة المثقفة ثقافة فرنسية تدعو إلى إدماج الجزائر و الذوبان في الحضارة الفرنسية.
- تشجيع الجاليات اليهودية للهيمنة على النشاطات الاقتصادية و منحها امتيازات خاصة بعد إعطائها الجنسية الفرنسية.في ظل هذه الظروف تأسّست جمعية العلماء المسلمينالجزائريين يوم 05 ماي 1931 بنادي الترقي بالعاصمة، وتشكّلت من أبرز العلماء الجزائريين في هذه الفترة منهم: عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، الطيب العقبي، العربي التبسي، مبارك الميلي، الامين العمودي.وترأس اللجنة التأسيسية السيد عمران إسماعيل، وتمّ تعين مجلس إداري من 13 عضو ورغم غياب الشيخ عبد الحميد بن باديس إلاّ أنه انتخب رئيسا للجمعية ، وأختير الشيخ البشير الإبراهيمي نائبا له، وتحصلت الجمعية على الاعتماد من طرف الإدارة الفرنسية نظرا لليونة برنامجها
2- برنامجها
حدّدت جمعية العلماء برنامجها في قانونها الأساسي الذي تضمّن 24 فصلا تناول فيها الخطوط العريضة لعمل الجمعية، وتظهر أهداف الجمعية من خلال قانونها الأساسي ومن خلال نشاطات أعضائها و كتاباتهم. وفي مقدمة هذه الأهداف، المحافظة على الدين الإسلامي ومحاربة الخرافات والبدع و إحياء اللغة العربية وآدابها و تمجيد التاريخ الإسلامي وآثاره ،وقد شهد لها بهذا حتى المعارضين لأفكارها فالسيد فرحات عباس أشار إلى أن أهداف الجمعية تمثلت " في تجديد الإسلام، والصراع ضد المرابطين أداة الاستعمار وتكوين إطارات الثقافة العربية".
وأوضح رئيس الجمعية أهدافها الرئيسية في مقال: دعوة جمعية العلماء المسلمينوأصولها.وأبدت الجمعية موافق واضحة في القضايا السياسية المطروحة فعارضت سياسة الإدماج التي كانت تطالب بها: فيدرالية المنتخبين الجزائريين، بزعامة الدكتور بن جلول وابن التهامي. وفرحات عباس وغيرهم، كما سجلت حضورها الفعال في المؤتمر الإسلامي سنة 1936.
واعتمدت الجمعية في نشاطها على وسائل معروفة كالمسجد، والمدارس الحرة للتعليم والتربية وتكوين الإطارات والنوادي للنشاطات الثقافية وكذا الصحافة لنشر أفكارها وخاصة صحيفتي الشهاب و البصائر.
هذا النشاط المميز للجمعية جعلها في وضع لا يحسد عليه إذ برز معارضون لنشاطاتها فإلى جانب مخططات الإدارة الفرنسية في مواجهة جمعية العلماء،وإغتيال الشيخ محمود كحول نجد معارضة النواب و رجال الزوايا والمرابطين، وكذا المبشرين ورجال الدين المسيحيين
4- مسارها السياسي
واصلت الجمعية نشاطها خلال الثلاثينات رغم المضايقات التي تعرّضت لها من طرف الإدارة الاستعمارية ومعارضة خصومها، من خلال المدارس والصحف والنوادي حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية حين امتنعت عن تأييد فرنسا فقّللت من نشاطها وأوقفت صحفها ممّا جعل السلطة الفرنسية تقوم بنفي البشير الإبراهيمي إلى آفلو، وانضمت الجمعية إلى أحباب البيان، التنظيم الذي أسسه فرحات عباس، وبعد الحرب العالمية الثانية واصلت مهمتها الإصلاحية تحت رئاسة البشير الإبراهيمي إلى غاية اندلاع الثورة التحريرية أين أصدر الشيخ الإبراهيمي بيان جمعية العلماء المسلمين من القاهرة بتاريخ 14 نوفمبر 1954 يدعو فيه الشعب إلى الالتفاف حول الثورة، وسنة 1956 أصدرت السلطات الفرنسية حلّ الأحزاب السياسية ومنها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.. نجم سطع ثم أفل
الشيخ عبد الحميد بن باديس
يتفق الجميع على أن الثمار لا بد لها من أشجار التي هي سبب خروجها، وأن الأشجار لا بد لها من جذور تثبتها في الأرض، وتحمل لها ماء الحياة، وكل من يعرف تاريخ الجزائر الحديث يؤمن بأن الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي كان من ثمار شجرة الثورة الجزائرية المسلحة التي بدأت في عام 1954، وأن جذر هذه الشجرة هو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ومن ثم فإن هذه الجمعية جديرة بالنظر والدراسة والتحليل، وإن كان المقام لا يتسع إلا لبضعة سطور عنها، فإن واجب شباب الإسلام أن يراجعوا تراث هذه الحركة.
بادئ ذي بدء لا بد أن نوضح ثلاثة أمور:
أولاً: وضع الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي.
ثانيًا: موقف التيارات الإسلامية في الجزائر.
ثالثًا: موقف مؤسسي جمعية العلماء قبيل التأسيس.
أولاً: وضع الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي:
كان مبدأ السياسة الاستعمارية الفرنسية ربط الدولة المحتلة بفرنسا، بروابط ثقافية واقتصادية فضلاً عن السياسية، وفي هذا الإطار تعمل على توطين فرنسيين في هذه البلاد، وتجعلهم يمسكون بمقاليد أمورها. ومن جانب آخر تعمل على تعليم أبناء هذا البلد تعليمًا يخضعهم لفرنسا شكلاً وموضوعًا. ولتحقيق هذه السياسة لا تتورع عن القيام بحرب إبادة لهذا الشعب، وهذا ما كان في الجزائر، فقد قام الاستعمار الفرنسي بالآتي (منذ عام 1830م):
...61607; إغلاق كافة المدارس الإسلامية (أُغلِقَت أكثر من ألف مدرسة).
...61607; القيام بحرب إبادة بما عرف باسم (الحرب المطلقة)، فقام بحرق الغابات والمحاصيل، والتخطيط للمجاعات، وإبادة مناطق المقاومة بشكل تام، ودفع السكان للحدود الصحراوية.
...61607; جعل اللغة العربية لغة ثانية في جميع مراحل التعليم، ومنع تدريس أي مقررات دراسية عن التاريخ الإسلامي أو الجزائري، أو جغرافية الجزائر، وجعل المقرر فقط دراسة تاريخ فرنسا، وجغرافيتها.
...61607; منع أي دروس دينية بالمساجد، وقد وافق فقط على تحفيظ القرآن في بعض المساجد -مع التضييق عليها- دون تفسير أو شرح.
...61607; العمل على الفصل بين عنصر البربر والعنصر العربي، وذلك فيما عُرف باسم سياسة (الظهير البربري)، والسعي لتنصير البربر في ظل هذه السياسة.
...61607; الاستيلاء على كافة الأوقاف المحبوسة على التعليم، وتنشيط المؤسسات التبشيرية في كافة مناطق الجزائر.
هذا قليل من كثير، وفي المراجع الفرنسية نفسها ذِكر لوقائع تعتبر كافة جرائم الحرب بجانبها شيئًا يسيرًا.
ثانيًا: موقف التيارات الإسلامية في الجزائر:
نستطيع أن نحصر هذه التيارات في ثلاثة اتجاهات:
* الصوفية المقاتلة.
* الصوفية الخاضعة.
* العلماء.
أما عن اتجاه الصوفية المقاتلة، فقد ظهر منذ قيام الأمير عبد القادر الحسيني الجزائري بحركة المقاومة للاحتلال الفرنسي لمدة عشرين عامًا، واستمر حتى بعد قيام ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في مراكش، ونتيجة لسياسة الإبادة التي اتبعها الفرنسيون، فقد تقلص وجود هذا الاتجاه، إلا أنه عاد مرة ثانية مع بدء الثورة المسلحة.
أما الصوفية الخاضعة، فقد استغلها الفرنسيون لإظهار الإسلام بشكل يحض على التخلف والكسل والإيمان بالأساطير والخرافات، كما استغلوهم في فض الجماهير عن أي حركة فاعلة، أو دعوة للإصلاح أو المقاومة.
أما العلماء، فقد سيطر اليأس على الكثير منهم، فاتجهوا إلى بقاع أخرى، وعملوا في التدريس فيها، والقلة استقرت في الجزائر، تعمل -سرًّا- على تعليم الشباب والأطفال.
ثالثًا: موقف مؤسسي جمعية العلماء قبيل التأسيس:
توزع مؤسسو حركة جمعية العلماء على الاتجاهين السابقين، حتى ظهرت شخصية عبد الحميد بن باديس (1889-1940)، الذي قال له أبوه في صباه: "اكفني هَمَّ الآخرة أكْفِكَ هَمَّ الدنيا"، وذلك لما رأى من علامات النجابة والذكاء وحب العلم، وكانت نصائح شيوخه بين حث على الاستقرار خارج البلاد بعد استكمال عدته العلمية للتعليم، أو العودة إلى الجزائر لإنقاذ الأمة الإسلامية الجزائرية.
وكان اللقاء مع زميل كفاحه الشيخ البشير الإبراهيمي في رحاب المدينة المنورة، وكان التخطيط لإنقاذ إسلام وعروبة الجزائر، بل وعقيدتها وهويتها.
وعاد ابن باديس إلى الجزائر عام 1913، واستثمر قوة صلة والده بالسلطات الفرنسية، وبدأ في تفسير كتاب الله في المساجد، واندفعت إليه جموع الشباب والكهول، المتعلمين والجهلاء، حتى ضاقت بهم الطرقات حول المسجد، وقد كان والده عند وعده، فقام بحمايته، ودعمه، حيث لم ينشغل ابن باديس بتدبير قوته، أو تدبير نفقة بيته، أو تكاليف انتقالاته بين المدن.
وعاد البشير الإبراهيمي، وشارك في هذه الصحوة، واستنفر المشهد سائر العلماء، وكانت نواة العمل الجماعي "نادي الترقي" بالعاصمة، وكانت الخطوة التالية هي تنظيم العمل بشكل رسمي، فاجتمع أربعة نفر في "نادي الترقي"، هم: عبد الحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي، وأحمد توفيق المدني، والطيب العقبي.
واتفق المجتمعون على توجيه دعوة إلى مجموعة من العلماء العاملين في الساحة الجزائرية، ولم توضع على الدعوات أي أسماء تجنبًا لحساسيات في نفوس بعضهم منهم، بسبب مهاجمة ابن باديس والبشير للصوفية الخاضعة في عدة مقالات ودروس.
واجتمعوا، وخرجت للوجود في عام 1928، ثم أخذت شكلها القانوني وفقًا للقانون الخاص بالجمعيات في مايو 1931، وقد استطاع البشير الإبراهيمي أن يصوغ القانون الأساسي لها دون تفريط في الأساسيات المتفق عليها بين العلماء، وبما يخدم الصحوة المنشودة، وفي ذات الوقت بما يتواءم مع القانون الرسمي، وأجمع الاجتماع على اختيار عبد الحميد بن باديس رئيسًا، والبشير الإبراهيمي نائبًا، رغم غياب الأول عن الاجتماع التأسيسي.
واستطاع ابن باديس أن يمرر الجمعية في كافة المناطق الجزائرية، وقد كان في زياراته حريصًا على زيارة الحاكم الفرنسي، وإقناعه أن الجمعية ومدارسها تعمل في إطار تحسين حالة الجزائري، ليستطيع أن يتعاون مع الفرنسي في ترقية حال البلاد.
أهداف ووسائل جمعية العلماء
ووفقًا لفكر ونظام الجمعية، فقد تجنبت أنشطتها السياسة، ووجهت جهودها إلى ميدان التعليم العربي، والهدف هو إحياء اللغة العربية بإنشاء المدارس العربية، وإحياء الإسلام بتطهيره مما غشيه من ضلالات العصور المتأخرة، وتحريره من السيطرة الاستعمارية، متمثلة في رجال الدين الرسميين والطرقيين (الصوفية الخاضعة).
وتحت هذين الأصلين الكبيرين تندرج أعمال الجمعية التي ذكر الأستاذ البشير الإبراهيمي أمهاتها في هذه البنود الثمانية:
1- تنظيم حملة جارفة على البدع والخرافات والضلال في الدين، بواسطة الخطب والمحاضرات، ودروس الوعظ والإرشاد، في المساجد، والأندية، والأماكن العامة والخاصة، حتى في الأسواق، والمقالات في جرائدنا الخاصة التي أنشأناها لخدمة الفكرة الإصلاحية.
2- الشروع العاجل في التعليم العربي للصغار، فيما تصل إليه أيدينا من الأماكن، وفي بيوت الآباء، ربحًا للوقت قبل بناء المدارس.
3- تجنيد المئات من تلامذتنا المتخرجين، ودعوة الشبان المتخرجين من جامع الزيتونة للعمل في تعليم أبناء الشعب.
4- العمل على تعميم التعليم العربي للشبان، على النمط الذي بدأ به ابن باديس.
5- مطالبة الحكومة برفع يدها عن مساجدنا ومعاهدنا التي استولت عليها، لنستخدمها في تعليم الأمة دينها، وتعليم أبنائها لغتهم.
6- مطالبة الحكومة بتسليم أوقاف الإسلام التي احتجزتها ووزعتها، لتصرف في مصارفها التي وُقِفَت عليها. (وكانت من الكثرة بحيث تساوي ميزانية دولة متوسطة).
7- مطالبة الحكومة باستقلال القضاء الإسلامي، في الأحوال الشخصية مبدئيًا.
8- مطالبة الحكومة بعدم تدخلها في تعيين الموظفين الدينيين.
أما الوسائل التي جعلت الجمعية تتوسل بها لتحقيق هذه الغايات، فهي الوسائل التي اتخذها ابن باديس وصحبه، منذ نشأت الحركة، ولكن قيام الجمعية جعلها أكثر تنظيمًا، وأشد نشاطًا، وأبلغ أثرًا، وهذه الوسائل تتلخص في إنشاء المدارس، واستخدام المساجد، وبنائها، وتأسيس الأندية، وتكوين الجمعيات، وإخراج الصحف والمجلات.
أما المدارس فقد أنشأت الجمعية خلال ثلاث سنوات، مائة وخمسين مدرسة، يتعلم بها ما يقرب من خمسين ألف تلميذ، كما يقول مؤلفا كتاب الجزائر الثائرة، وبعض هذه المدارس كان يعتبر -إلى جانب الغرض التعليمي- مركزًا من مراكز النشاط الاجتماعي، بما كانت تقيمه وتدعو إليه في نهاية العام وفي المناسبات الدينية، من حفلات حافلة بالخطب والشعر، كمدرسة الشبيبة الإسلامية في مدينة الجزائر.
وفي سبيل استخدام كل وسيلة لنشر التعليم العربي، اتجهت الجمعية إلى الزوايا القديمة، داعية إلى إصلاحها بحيث تكون ملائمة لروح العصر.
الصعوبات والمعوقات
لم تغفل السلطة الفرنسية عن نشاط الجمعية، وبدأت في التضييق على أعضائها منذ عام 1933، ووضعت كافة أعضائها تحت المراقبة، ومنعت إصدار تصاريح جديدة لمدارس الجمعية.
ولما كانت الإجراءات الفرنسية ضد الجمعية بغرض تحجيم حركة الجمعية حتى يخلو الطريق للصوفية، فقد واجهت الجمعية الصوفية في المساجد وبين جموع الناس، فاستيقظت الجزائر على حقيقة الصوفية الخاضعة وتهاونها مع المحتل.
وكانت المواجهة الثانية مع المؤامرات الفرنسية على هوية الجزائر في عام 1936، وذلك من خلال مشروع فرنسي يجعل الجزائر مقاطعة فرنسية، ويتم تمثيلها في البرلمان الفرنسي، وظن البعض أن هذا المشروع قد يكون طريقًا للحصول على بعض حقوق الجزائر المهدرة، فشارك مجموعة من الجمعية على رأسهم ابن باديس في مؤتمر جزائري فرنسي في باريس لمناقشة المشروع، وكان حضورهم بشكل شخصي حتى لا يخالفوا قانون الجمعيات، واستطاع أفراد الجمعية توجيه القرارات النهائية بما يحفظ للجزائر عروبته، وإسلامه، وذاتيته، وصاغ ابن باديس رده على المشروع في قصيدة مفحمة.
كان نجاح الجمعية في إحباط هذه المؤامرة دافعًا للسلطات الفرنسية إلى أن تجد من الوسائل ما يحطم بعضًا من شخصيات الجمعية، فدفعت الطرق الصوفية العميلة إلى مهاجمة ابن باديس، حتى إنها أطلقت عليه -أي الصوفية– "ابن إبليس"! كما دبرت سلطات الاحتلال اغتيال مفتي العاصمة ابن مكحول، واتهمت الطيب العقبي بقتله، ولم تحاكم الرجل أو تقبض عليه، وتركت الاتهام معلقًا، وذلك حتى تُشَوِّهَ سمعة الرجل وجمعيته، وهو ما دفع به إلى الاستقالة عام 1938.
ومع قيام الحرب العالمية الثانية، طالبت فرنسا كافة الهيئات الجزائرية بتأييد موقف فرنسا، وكان ذلك تمهيدًا لإشراك الجزائريين في صفوف القتال الفرنسية، ورفضت الجمعية، وكانت المواجهة هذه المرة مع السلطة الفرنسية مباشرة، فأصدرت السلطات قرارًا بإلغاء الجمعية عام 1940، وتوفي ابن باديس في نفس العام، وخلفه محمد البشير الإبراهيمي في رئاسة الجمعية، ولكنه اعتقل وعُذِّب في عام 1941، ثم قامت سلطات الاحتلال بنفيه إلى الصحراء، وفي عام 1946 عادت الجمعية إلى النشاط بعد الإفراج عن رئيسها، ولكنها لم تعد كما كانت من قبل.
أفول نجم جمعية العلماء
كانت الخطوة الأولى في اتجاه أفول نجم الجمعية هي خروج الجمعية عن أهدافها السابق ذكرها، وانخراطها في العمل السياسي، مع صدور نظام الجزائر الجديد الصادر من السلطة الفرنسية عام 1947، وفيه اعترفت فرنسا بما يشبه الحكم الذاتي للجزائر، واعترفت باللغةالعربية لغة أساسية في الجزائر، ومن ثم اتجهت الجمعية إلى ممارسات سياسية ورطتها في مواقف وتحالفات وصدامات سياسية، وصرفت الجمعية عن التركيز على معاني التربية التي صنعت لها مكانتها عند الشعب الجزائري.
والخطوة الثانية هي سفر كل من رئيس الجمعية البشير الإبراهيمي، ونائبه أحمد المدني إلى مصر في عام 1951، واستقرارهما بها منذ عام 1952، وإن كان عذرهما هو حشد التأييد السياسي والمادي للثورة والقضية الجزائرية، وخشية الاعتقال عند العودة، ونجاحهما في المشاركة في تأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة، وافتتاح إذاعة صوت الجزائر من الإذاعة المصرية، وقد كان أول صوت يصدر من هذه الإذاعة صوت البشير الإبراهيمي مناديًا الثوار: "لا نسمع عنكم أنكم تراجعتم، أو تخاذلتم"، ولكن هذا الغياب المستمر أورث فراغًا في التوجيه والقيادة، لم تستطع قيادة العربي البتسي أن تقنع القدامى أو الجدد، ومن ثم بدأت صراعات خفية حول رئاسة الجمعية.
2- ظروف تأسيسه
ظهرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في ظروف متميزة يمكن اختصارها فيما يلي:
- احتفال فرنسا بالذكرى المئوية للاحتلال، 1830-1930 و مارا فق هذا الاحتفال من افتخار بالقضاء على الشخصية الجزائرية، ومن استفزازات من طرف المعمرين خاصة.
- تجنيس كل المولودين بالجزائر من أبوين أجنبيين و إعطائهم إمتيازات معتبرة في الإدارة و الخدمات.
- الاعتداء الصّارخ على الحريات الأساسية للمواطنين و التضييق على الصحافة الجزائرية و المدارس العربية و محاربة القضاء الإسلامي.
- بروز كتلة من النخبة المثقفة ثقافة فرنسية تدعو إلى إدماج الجزائر و الذوبان في الحضارة الفرنسية.
- تشجيع الجاليات اليهودية للهيمنة على النشاطات الاقتصادية و منحها امتيازات خاصة بعد إعطائها الجنسية الفرنسية.في ظل هذه الظروف تأسّست جمعية العلماء المسلمينالجزائريين يوم 05 ماي 1931 بنادي الترقي بالعاصمة، وتشكّلت من أبرز العلماء الجزائريين في هذه الفترة منهم: عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، الطيب العقبي، العربي التبسي، مبارك الميلي، الامين العمودي.وترأس اللجنة التأسيسية السيد عمران إسماعيل، وتمّ تعين مجلس إداري من 13 عضو ورغم غياب الشيخ عبد الحميد بن باديس إلاّ أنه انتخب رئيسا للجمعية ، وأختير الشيخ البشير الإبراهيمي نائبا له، وتحصلت الجمعية على الاعتماد من طرف الإدارة الفرنسية نظرا لليونة برنامجها
2- برنامجها
حدّدت جمعية العلماء برنامجها في قانونها الأساسي الذي تضمّن 24 فصلا تناول فيها الخطوط العريضة لعمل الجمعية، وتظهر أهداف الجمعية من خلال قانونها الأساسي ومن خلال نشاطات أعضائها و كتاباتهم. وفي مقدمة هذه الأهداف، المحافظة على الدين الإسلامي ومحاربة الخرافات والبدع و إحياء اللغة العربية وآدابها و تمجيد التاريخ الإسلامي وآثاره ،وقد شهد لها بهذا حتى المعارضين لأفكارها فالسيد فرحات عباس أشار إلى أن أهداف الجمعية تمثلت " في تجديد الإسلام، والصراع ضد المرابطين أداة الاستعمار وتكوين إطارات الثقافة العربية".
وأوضح رئيس الجمعية أهدافها الرئيسية في مقال: دعوة جمعية العلماء المسلمينوأصولها.وأبدت الجمعية موافق واضحة في القضايا السياسية المطروحة فعارضت سياسة الإدماج التي كانت تطالب بها: فيدرالية المنتخبين الجزائريين، بزعامة الدكتور بن جلول وابن التهامي. وفرحات عباس وغيرهم، كما سجلت حضورها الفعال في المؤتمر الإسلامي سنة 1936.
واعتمدت الجمعية في نشاطها على وسائل معروفة كالمسجد، والمدارس الحرة للتعليم والتربية وتكوين الإطارات والنوادي للنشاطات الثقافية وكذا الصحافة لنشر أفكارها وخاصة صحيفتي الشهاب و البصائر.
هذا النشاط المميز للجمعية جعلها في وضع لا يحسد عليه إذ برز معارضون لنشاطاتها فإلى جانب مخططات الإدارة الفرنسية في مواجهة جمعية العلماء،وإغتيال الشيخ محمود كحول نجد معارضة النواب و رجال الزوايا والمرابطين، وكذا المبشرين ورجال الدين المسيحيين
4- مسارها السياسي
واصلت الجمعية نشاطها خلال الثلاثينات رغم المضايقات التي تعرّضت لها من طرف الإدارة الاستعمارية ومعارضة خصومها، من خلال المدارس والصحف والنوادي حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية حين امتنعت عن تأييد فرنسا فقّللت من نشاطها وأوقفت صحفها ممّا جعل السلطة الفرنسية تقوم بنفي البشير الإبراهيمي إلى آفلو، وانضمت الجمعية إلى أحباب البيان، التنظيم الذي أسسه فرحات عباس، وبعد الحرب العالمية الثانية واصلت مهمتها الإصلاحية تحت رئاسة البشير الإبراهيمي إلى غاية اندلاع الثورة التحريرية أين أصدر الشيخ الإبراهيمي بيان جمعية العلماء المسلمين من القاهرة بتاريخ 14 نوفمبر 1954 يدعو فيه الشعب إلى الالتفاف حول الثورة، وسنة 1956 أصدرت السلطات الفرنسية حلّ الأحزاب السياسية ومنها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.. نجم سطع ثم أفل
الشيخ عبد الحميد بن باديس
يتفق الجميع على أن الثمار لا بد لها من أشجار التي هي سبب خروجها، وأن الأشجار لا بد لها من جذور تثبتها في الأرض، وتحمل لها ماء الحياة، وكل من يعرف تاريخ الجزائر الحديث يؤمن بأن الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي كان من ثمار شجرة الثورة الجزائرية المسلحة التي بدأت في عام 1954، وأن جذر هذه الشجرة هو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ومن ثم فإن هذه الجمعية جديرة بالنظر والدراسة والتحليل، وإن كان المقام لا يتسع إلا لبضعة سطور عنها، فإن واجب شباب الإسلام أن يراجعوا تراث هذه الحركة.
بادئ ذي بدء لا بد أن نوضح ثلاثة أمور:
أولاً: وضع الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي.
ثانيًا: موقف التيارات الإسلامية في الجزائر.
ثالثًا: موقف مؤسسي جمعية العلماء قبيل التأسيس.
أولاً: وضع الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي:
كان مبدأ السياسة الاستعمارية الفرنسية ربط الدولة المحتلة بفرنسا، بروابط ثقافية واقتصادية فضلاً عن السياسية، وفي هذا الإطار تعمل على توطين فرنسيين في هذه البلاد، وتجعلهم يمسكون بمقاليد أمورها. ومن جانب آخر تعمل على تعليم أبناء هذا البلد تعليمًا يخضعهم لفرنسا شكلاً وموضوعًا. ولتحقيق هذه السياسة لا تتورع عن القيام بحرب إبادة لهذا الشعب، وهذا ما كان في الجزائر، فقد قام الاستعمار الفرنسي بالآتي (منذ عام 1830م):
...61607; إغلاق كافة المدارس الإسلامية (أُغلِقَت أكثر من ألف مدرسة).
...61607; القيام بحرب إبادة بما عرف باسم (الحرب المطلقة)، فقام بحرق الغابات والمحاصيل، والتخطيط للمجاعات، وإبادة مناطق المقاومة بشكل تام، ودفع السكان للحدود الصحراوية.
...61607; جعل اللغة العربية لغة ثانية في جميع مراحل التعليم، ومنع تدريس أي مقررات دراسية عن التاريخ الإسلامي أو الجزائري، أو جغرافية الجزائر، وجعل المقرر فقط دراسة تاريخ فرنسا، وجغرافيتها.
...61607; منع أي دروس دينية بالمساجد، وقد وافق فقط على تحفيظ القرآن في بعض المساجد -مع التضييق عليها- دون تفسير أو شرح.
...61607; العمل على الفصل بين عنصر البربر والعنصر العربي، وذلك فيما عُرف باسم سياسة (الظهير البربري)، والسعي لتنصير البربر في ظل هذه السياسة.
...61607; الاستيلاء على كافة الأوقاف المحبوسة على التعليم، وتنشيط المؤسسات التبشيرية في كافة مناطق الجزائر.
هذا قليل من كثير، وفي المراجع الفرنسية نفسها ذِكر لوقائع تعتبر كافة جرائم الحرب بجانبها شيئًا يسيرًا.
ثانيًا: موقف التيارات الإسلامية في الجزائر:
نستطيع أن نحصر هذه التيارات في ثلاثة اتجاهات:
* الصوفية المقاتلة.
* الصوفية الخاضعة.
* العلماء.
أما عن اتجاه الصوفية المقاتلة، فقد ظهر منذ قيام الأمير عبد القادر الحسيني الجزائري بحركة المقاومة للاحتلال الفرنسي لمدة عشرين عامًا، واستمر حتى بعد قيام ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في مراكش، ونتيجة لسياسة الإبادة التي اتبعها الفرنسيون، فقد تقلص وجود هذا الاتجاه، إلا أنه عاد مرة ثانية مع بدء الثورة المسلحة.
أما الصوفية الخاضعة، فقد استغلها الفرنسيون لإظهار الإسلام بشكل يحض على التخلف والكسل والإيمان بالأساطير والخرافات، كما استغلوهم في فض الجماهير عن أي حركة فاعلة، أو دعوة للإصلاح أو المقاومة.
أما العلماء، فقد سيطر اليأس على الكثير منهم، فاتجهوا إلى بقاع أخرى، وعملوا في التدريس فيها، والقلة استقرت في الجزائر، تعمل -سرًّا- على تعليم الشباب والأطفال.
ثالثًا: موقف مؤسسي جمعية العلماء قبيل التأسيس:
توزع مؤسسو حركة جمعية العلماء على الاتجاهين السابقين، حتى ظهرت شخصية عبد الحميد بن باديس (1889-1940)، الذي قال له أبوه في صباه: "اكفني هَمَّ الآخرة أكْفِكَ هَمَّ الدنيا"، وذلك لما رأى من علامات النجابة والذكاء وحب العلم، وكانت نصائح شيوخه بين حث على الاستقرار خارج البلاد بعد استكمال عدته العلمية للتعليم، أو العودة إلى الجزائر لإنقاذ الأمة الإسلامية الجزائرية.
وكان اللقاء مع زميل كفاحه الشيخ البشير الإبراهيمي في رحاب المدينة المنورة، وكان التخطيط لإنقاذ إسلام وعروبة الجزائر، بل وعقيدتها وهويتها.
وعاد ابن باديس إلى الجزائر عام 1913، واستثمر قوة صلة والده بالسلطات الفرنسية، وبدأ في تفسير كتاب الله في المساجد، واندفعت إليه جموع الشباب والكهول، المتعلمين والجهلاء، حتى ضاقت بهم الطرقات حول المسجد، وقد كان والده عند وعده، فقام بحمايته، ودعمه، حيث لم ينشغل ابن باديس بتدبير قوته، أو تدبير نفقة بيته، أو تكاليف انتقالاته بين المدن.
وعاد البشير الإبراهيمي، وشارك في هذه الصحوة، واستنفر المشهد سائر العلماء، وكانت نواة العمل الجماعي "نادي الترقي" بالعاصمة، وكانت الخطوة التالية هي تنظيم العمل بشكل رسمي، فاجتمع أربعة نفر في "نادي الترقي"، هم: عبد الحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي، وأحمد توفيق المدني، والطيب العقبي.
واتفق المجتمعون على توجيه دعوة إلى مجموعة من العلماء العاملين في الساحة الجزائرية، ولم توضع على الدعوات أي أسماء تجنبًا لحساسيات في نفوس بعضهم منهم، بسبب مهاجمة ابن باديس والبشير للصوفية الخاضعة في عدة مقالات ودروس.
واجتمعوا، وخرجت للوجود في عام 1928، ثم أخذت شكلها القانوني وفقًا للقانون الخاص بالجمعيات في مايو 1931، وقد استطاع البشير الإبراهيمي أن يصوغ القانون الأساسي لها دون تفريط في الأساسيات المتفق عليها بين العلماء، وبما يخدم الصحوة المنشودة، وفي ذات الوقت بما يتواءم مع القانون الرسمي، وأجمع الاجتماع على اختيار عبد الحميد بن باديس رئيسًا، والبشير الإبراهيمي نائبًا، رغم غياب الأول عن الاجتماع التأسيسي.
واستطاع ابن باديس أن يمرر الجمعية في كافة المناطق الجزائرية، وقد كان في زياراته حريصًا على زيارة الحاكم الفرنسي، وإقناعه أن الجمعية ومدارسها تعمل في إطار تحسين حالة الجزائري، ليستطيع أن يتعاون مع الفرنسي في ترقية حال البلاد.
أهداف ووسائل جمعية العلماء
ووفقًا لفكر ونظام الجمعية، فقد تجنبت أنشطتها السياسة، ووجهت جهودها إلى ميدان التعليم العربي، والهدف هو إحياء اللغة العربية بإنشاء المدارس العربية، وإحياء الإسلام بتطهيره مما غشيه من ضلالات العصور المتأخرة، وتحريره من السيطرة الاستعمارية، متمثلة في رجال الدين الرسميين والطرقيين (الصوفية الخاضعة).
وتحت هذين الأصلين الكبيرين تندرج أعمال الجمعية التي ذكر الأستاذ البشير الإبراهيمي أمهاتها في هذه البنود الثمانية:
1- تنظيم حملة جارفة على البدع والخرافات والضلال في الدين، بواسطة الخطب والمحاضرات، ودروس الوعظ والإرشاد، في المساجد، والأندية، والأماكن العامة والخاصة، حتى في الأسواق، والمقالات في جرائدنا الخاصة التي أنشأناها لخدمة الفكرة الإصلاحية.
2- الشروع العاجل في التعليم العربي للصغار، فيما تصل إليه أيدينا من الأماكن، وفي بيوت الآباء، ربحًا للوقت قبل بناء المدارس.
3- تجنيد المئات من تلامذتنا المتخرجين، ودعوة الشبان المتخرجين من جامع الزيتونة للعمل في تعليم أبناء الشعب.
4- العمل على تعميم التعليم العربي للشبان، على النمط الذي بدأ به ابن باديس.
5- مطالبة الحكومة برفع يدها عن مساجدنا ومعاهدنا التي استولت عليها، لنستخدمها في تعليم الأمة دينها، وتعليم أبنائها لغتهم.
6- مطالبة الحكومة بتسليم أوقاف الإسلام التي احتجزتها ووزعتها، لتصرف في مصارفها التي وُقِفَت عليها. (وكانت من الكثرة بحيث تساوي ميزانية دولة متوسطة).
7- مطالبة الحكومة باستقلال القضاء الإسلامي، في الأحوال الشخصية مبدئيًا.
8- مطالبة الحكومة بعدم تدخلها في تعيين الموظفين الدينيين.
أما الوسائل التي جعلت الجمعية تتوسل بها لتحقيق هذه الغايات، فهي الوسائل التي اتخذها ابن باديس وصحبه، منذ نشأت الحركة، ولكن قيام الجمعية جعلها أكثر تنظيمًا، وأشد نشاطًا، وأبلغ أثرًا، وهذه الوسائل تتلخص في إنشاء المدارس، واستخدام المساجد، وبنائها، وتأسيس الأندية، وتكوين الجمعيات، وإخراج الصحف والمجلات.
أما المدارس فقد أنشأت الجمعية خلال ثلاث سنوات، مائة وخمسين مدرسة، يتعلم بها ما يقرب من خمسين ألف تلميذ، كما يقول مؤلفا كتاب الجزائر الثائرة، وبعض هذه المدارس كان يعتبر -إلى جانب الغرض التعليمي- مركزًا من مراكز النشاط الاجتماعي، بما كانت تقيمه وتدعو إليه في نهاية العام وفي المناسبات الدينية، من حفلات حافلة بالخطب والشعر، كمدرسة الشبيبة الإسلامية في مدينة الجزائر.
وفي سبيل استخدام كل وسيلة لنشر التعليم العربي، اتجهت الجمعية إلى الزوايا القديمة، داعية إلى إصلاحها بحيث تكون ملائمة لروح العصر.
الصعوبات والمعوقات
لم تغفل السلطة الفرنسية عن نشاط الجمعية، وبدأت في التضييق على أعضائها منذ عام 1933، ووضعت كافة أعضائها تحت المراقبة، ومنعت إصدار تصاريح جديدة لمدارس الجمعية.
ولما كانت الإجراءات الفرنسية ضد الجمعية بغرض تحجيم حركة الجمعية حتى يخلو الطريق للصوفية، فقد واجهت الجمعية الصوفية في المساجد وبين جموع الناس، فاستيقظت الجزائر على حقيقة الصوفية الخاضعة وتهاونها مع المحتل.
وكانت المواجهة الثانية مع المؤامرات الفرنسية على هوية الجزائر في عام 1936، وذلك من خلال مشروع فرنسي يجعل الجزائر مقاطعة فرنسية، ويتم تمثيلها في البرلمان الفرنسي، وظن البعض أن هذا المشروع قد يكون طريقًا للحصول على بعض حقوق الجزائر المهدرة، فشارك مجموعة من الجمعية على رأسهم ابن باديس في مؤتمر جزائري فرنسي في باريس لمناقشة المشروع، وكان حضورهم بشكل شخصي حتى لا يخالفوا قانون الجمعيات، واستطاع أفراد الجمعية توجيه القرارات النهائية بما يحفظ للجزائر عروبته، وإسلامه، وذاتيته، وصاغ ابن باديس رده على المشروع في قصيدة مفحمة.
كان نجاح الجمعية في إحباط هذه المؤامرة دافعًا للسلطات الفرنسية إلى أن تجد من الوسائل ما يحطم بعضًا من شخصيات الجمعية، فدفعت الطرق الصوفية العميلة إلى مهاجمة ابن باديس، حتى إنها أطلقت عليه -أي الصوفية– "ابن إبليس"! كما دبرت سلطات الاحتلال اغتيال مفتي العاصمة ابن مكحول، واتهمت الطيب العقبي بقتله، ولم تحاكم الرجل أو تقبض عليه، وتركت الاتهام معلقًا، وذلك حتى تُشَوِّهَ سمعة الرجل وجمعيته، وهو ما دفع به إلى الاستقالة عام 1938.
ومع قيام الحرب العالمية الثانية، طالبت فرنسا كافة الهيئات الجزائرية بتأييد موقف فرنسا، وكان ذلك تمهيدًا لإشراك الجزائريين في صفوف القتال الفرنسية، ورفضت الجمعية، وكانت المواجهة هذه المرة مع السلطة الفرنسية مباشرة، فأصدرت السلطات قرارًا بإلغاء الجمعية عام 1940، وتوفي ابن باديس في نفس العام، وخلفه محمد البشير الإبراهيمي في رئاسة الجمعية، ولكنه اعتقل وعُذِّب في عام 1941، ثم قامت سلطات الاحتلال بنفيه إلى الصحراء، وفي عام 1946 عادت الجمعية إلى النشاط بعد الإفراج عن رئيسها، ولكنها لم تعد كما كانت من قبل.
أفول نجم جمعية العلماء
كانت الخطوة الأولى في اتجاه أفول نجم الجمعية هي خروج الجمعية عن أهدافها السابق ذكرها، وانخراطها في العمل السياسي، مع صدور نظام الجزائر الجديد الصادر من السلطة الفرنسية عام 1947، وفيه اعترفت فرنسا بما يشبه الحكم الذاتي للجزائر، واعترفت باللغةالعربية لغة أساسية في الجزائر، ومن ثم اتجهت الجمعية إلى ممارسات سياسية ورطتها في مواقف وتحالفات وصدامات سياسية، وصرفت الجمعية عن التركيز على معاني التربية التي صنعت لها مكانتها عند الشعب الجزائري.
والخطوة الثانية هي سفر كل من رئيس الجمعية البشير الإبراهيمي، ونائبه أحمد المدني إلى مصر في عام 1951، واستقرارهما بها منذ عام 1952، وإن كان عذرهما هو حشد التأييد السياسي والمادي للثورة والقضية الجزائرية، وخشية الاعتقال عند العودة، ونجاحهما في المشاركة في تأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة، وافتتاح إذاعة صوت الجزائر من الإذاعة المصرية، وقد كان أول صوت يصدر من هذه الإذاعة صوت البشير الإبراهيمي مناديًا الثوار: "لا نسمع عنكم أنكم تراجعتم، أو تخاذلتم"، ولكن هذا الغياب المستمر أورث فراغًا في التوجيه والقيادة، لم تستطع قيادة العربي البتسي أن تقنع القدامى أو الجدد، ومن ثم بدأت صراعات خفية حول رئاسة الجمعية.