Feat

Searching...

ماذا لو قَام ابن باديس ؟! بقلم: جمال الدين الواحدي

مارس 29, 2015

ماذا لو قَام ابن باديس ؟! بقلم: جمال الدين الواحدي


سؤال وجيه و طرح في محلّه , ماذا لو قام الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله و عاد ليرى ما حلّ بنا ؟ ماذا كان ليقول و يكتب و يفعل إزاء ما نحن عليه الآن ؟ هل ستسره الحالة التي آلت إليها أوضاع الجزائر فكريا و سياسيا و اجتماعيا و اقتصاديا ؟ هل جزائر اليوم هي الجزائر التي حلم بها هو و رفاقه و نشأه و باقي بني جيله ؟ هل حالة الإسلام و العروبة في الجزائر ستُرضيه ؟ هل ستعجبه الظواهر و المظاهر المتفشية في المجتمع الجزائري ؟ كلّنا نُريد أن نعرِف , و أنا بدوري سأحاول أن أتكهن بما سيحدث لو عاد ابن باديس , و سأطلق العنان لتصوري للإجابة على هذه الأسئلة و أخرى , و سأرحل بكم إلى عالم الخيال في هذا المقال .
أول شيء عليكم أن تعرفوه هو أن ابن باديس المعروف بهدوئه و رزانته و حكمته و طيبته قد يفقد أعصابه و يخرج عن عادته و يكون رد فعله قاسيا في التعامل معنا , كأن يصفعنا أو ينهرنا أو يزجرنا و كلنا نستحق ذلك , و أنا أتوقع أنه سينزعج جدا , و قد يبكي حسرة مما نفعله بالجزائر و هو الذي لم يبكِ مما فعلته فرنسا بالجزائر و الجزائريين و ظل صامدا بوجهها طوال حياته و لم يفقد الأمل يوما , و المؤكد أنه سيتمنى لو أنه لم يعد إلينا أبدا لأنه سيُصدم , سيُصدم أكثر مما تتصورون , و لن يسعد بتاتا بيننا , فالواقع اليوم "يوجّع القلب" بالتعبير الشعبي ...
تصوّروا معي لو عاد عبد الحميد بن باديس حقا ليعيش بيننا أياما و لنفترض أن هذا حدث , أول ما سيتبادر إلى ذهنه لما يحط أقدامه بيننا هو أن الجزائر مازالت مُستعمرة فرنسية كما تركها و ما زالت تحت وطأة الاستعمار الفرنسي و لم يتغيّر فيها شيء , و قد يظن نفسه مخطئا في العنوان و أنه في أرض غير أرض الجزائر التي قدّم لها حياته و سخر نفسه لخدمتها و إصلاحها و النضال لأجلها و أرادها أن تكون عربية خالصة كما كانت قبل الاستعمار المشؤوم , و الأمر طبيعي لأنه سيقابل أناسا كثيرين يتكلمون اللغة الفرنسية و يبالغون في ذلك , بل إنه سيُقابل أناسا لا يفهمون اللغة العربية و لا يتحدثون إلا بلسان فرنسي خالص قد يظنهم مُعمّرين من أبناء فرنسا أبا عن جد , ضف إلى ذلك أنه سيرى كلّ الصحف و اللافتات و الإشارات و الإشهارات و الإعلانات و العناوين و حتى واجهات المحلات مكتوبة باللغة الفرنسية لو يحط قدمه ببعض الأحياء الراقية , فبدل الصيدلي سيجد pharmacie , و بدل الحكيم سيجد médecine , و بدل الدكان سيجد magazine و هلمّ جرا , و كيف بعد هذا لا يُحس بأنه في أرض فرنسا أو واحدة من ملحقاتها ؟ و كيف لا يظن نفسه مُخطئا في العنوان الذي قصده و هو الجزائر العربية المسلمة ؟ و لا أحد يستطيع أن يُنكر هذه الحقيقة المؤسفة أو أن يلومني على هذا الكلام فأنتم تعرفون مكانة الثورة التحريرية المباركة في قلبي و تعرفون بأن ما أقوله ليس انتقاصا من شأنها أو من شأن شهدائها و رجالنا الأبرار الذين ماتوا في سبيل تحرير الجزائر و تحقيق استقلالها , و إنما أنا أتكلم هنا عن واقع مُحزن آلت إليه اللغة في بلادنا , فحتى لو يغض الطرف عن اللغة الفرنسية , سيُصدم بألسُن أخرى لن يفهم لها كلاما , فهي مزيج بين العربية و الفرنسية و التركية و الأمازيغية و كلّ اللغات ...
و بالحديث عن اللغة سأكتفي بطرح سؤال واحد : هل الجزائريون وقته كانوا يتحدثون الفرنسية المطلقة كما يحصل الآن ؟ لا والله لم يحدُث هذا في ذروة الاستعمار الفرنسي للجزائر و بعد قرن من مكوث فرنسا في الجزائر , إذ لم تستطع أن تُهيمن على ألسن الجزائريين بهذه الطريقة المخزية التي نُشاهدها الآن , و لم تقدر على النيل من لغتهم العربية و إبدال لهجتهم و مسخ هويتهم العربية , و فرنسا لم تتمكن من ذلك رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها طوال قرن و ثلاثين سنة , لكن اليوم بعد خمسين سنة استطاعت الفرنسية أن تفرض نفسها على المناهج التعليمية و التربوية و الجامعية رغم أنها لغة ميتة تجاوزها الزمن , و هناك من الجزائريين اليوم من لا يُحسن تكوين جملة بسيطة في اللغة العربية أو اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية بديلة على سبيل المثال , و الأولوية للغة الفرنسية التي أكل عليها الدهر و شرب , و الأدهى و الأمرّ أن كثيرا ممن يُصنّفون ضمن خانة النخبة و المثقفين و يشغلون مناصبا مهمة , بل يرأسون وزارات مهمة جدا و تعني أجيالا برمتها لا يجيدون التحدث باللغة العربية و لا يتكلمون بها إلا بشق الأنفس , فيا أسفي على اللغة العربية التي كافح ابن باديس لأجلها و أمضى حياته يُدافع عنها و يُحاول صونها و حفظها , و طبعا كان ابن باديس عليه رحمة الله ليقول " يا حسرتاه على - العربية لغتي - " تلك العبارة الثانية في شعاره الشهير الذي تبناه "الإسلام ديني , العربية لُغتي , الجزائر وطني "...
و لن يستطيع التكلم بالعربية الخالصة بيننا فلو يدخل إلى حانوتي مثلا و يقول له :" أعطني خبزة يا بني " فسيسمع قهقهة كبيرة من صاحب المحل و قد يرميه بالجنون , و سيصبح محل تنكيت و طرافة حتى من الأطفال الصغار , لأن من يتكلم العربية في معاملاتنا اليومية أصبح يُقابل كما يُقابل المُهرّج , يعني بالضحك و السخرية و القهقهات , بينما يُعامل المفرنس باحترام شديد لأنه في ذهنية الفئات البسيطة شخصية مرموقة قد تكون إطارا ساميا أو مسؤولا ما (واصِلا) و الواقع من المُضحات المبكيات و الله , نحن أمة صرنا نقزم ثوابتنا و أصالتنا إلى حد لا يطاق , و صرنا نحتقر مقوماتنا ...
و بعيدا عن ذلك فإنه لو يحط الرحال في المدن الكبيرة مثلا سيلاقي جزائريين غير الجزائريين الذين تركهم , و لن يرى من جزائريي الأمس سوى الأسماء و الألقاب المشابهة , فلا أشكالهم تدل جزائريتهم الأصيلة , و لا لهجتهم تدل على أنهم جزائريون , و لا أخلاقهم تدل على ذلك أيضا , و حتى إبان الاستعمار لم يكن يرى ما سيراه من مظاهر تعرفونها و أعرفها لن تكفي المجلدات في الحديث عنها .
و لو أعيد ترتيب الأفكار لأتحدث عن الإسلام و العروبة و الجزائر بالترتيب لأن ثلاثية عبد الحميد بن باديس التي سخر حياته لغرسها في الناس و تثبيتها فيهم مع باقي رجال جمعيته عليهم رحمه الله هي "الإسلام ديني و العربية لغتي و الجزائر وطني " سأبدأ بالإسلام و أسلط الضوء على بعض ما سيراه ابن باديس في جزائر اليوم من مظاهر لا تمت للإسلام بصلة , سيصادف مُسلمين ليسوا من المسلمين في شيء , و ليس هذا تكفيرا أو تأثيما أو شيئا من هذا القبيل حتى لا يزايد علينا المزايدون فالحقائق بينة و الحقيقة واضحة و نحن نرى و نسمع و نُشاهد و نقرأ كلّ يوم عن أفعال و أقوال هؤلاء المتأسلمين بهتانا و زورا , و لو يتجول قليلا بينهم فلن يميز بينهم و بين الفرنسيين المتواجدين في الجزائر أيامه , و سينسبهم للفرنسيين لا محالة لأنه مفرنسون و تغريبيون حد النخاع و سيتوصل إلى ذلك من خلال ملبسهم و لهجتهم و طريقة تفكيرهم , و لا عجب لو يدعو إلى نفيهم أو طردهم فهم لا يختلفون عن المُستعمر في شيء , و بعضهم صار يتطاول جهارا نهارا على المقدسات و الثوابت كما لم يفعل الفرنسيون حتى لأجل إثبات "حداثته" و ولاءه لأسياده الغربيين , و لعمري فإن الاستعمار أشرف منهم لأنه استعمار تنتظر منه أن يفعل كل شيء , أما هؤلاء فأفعالهم لا مبرّر لها ...
سوف يرى أيضا نساء لا يُشبهن المُسلمات و لن أصف أفعالهن و أحوالهن و لن أنقل أقوالهن في مقامٍ حضر فيه شيخي ابن باديس احتراما له و خجلا منه , و لا شك أنه سينسبهن أيضا للفرنسيات من خلال مظهرهن و مشيتهن و طريقة تفكيرهن و لن أتوسع كثيرا فأنتم تعرفون ما يحدث في زمن "الحداثة" التي طرأت على الجزائر و ما يبدر من دعاتها من بغاة و فاسقين و عاهرات و من هم على هذه الشاكلة , و هذا بعد أكثر من خمسين سنة من الاستقلال !!
و المصيبة لو علم ببعض الحقائق و الأحداث , كأن يعرف بأن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد أكثر من خمسين سنة استقلال لا تملك مقرّا لائقا بها و بتاريخها العريق و المشرف و لا أحد يمدّها أو يُعينها سوى اشتراكات و مبادرات أبنائها المُخلصين مثلها مثل باقي الجمعيات الخيرية و التربوية و الثقافية و الوطنية الأخرى بينما تتوفر المقرات و المنشآت للجمعيات الفرانكوفونية و العلمانية و التغريبية التي تعمل لصالح التيار المعادي للمجتمع , و غيرها من الجمعيات المدسوسة و المشبوهة و حتى بعض الجمعيات الفنية التي قوامها بضعة راقصات و "مداحات" و أخرى تناضل لأجل حقوق البغاة و الشواذ !!
ماذا لو يدرك بأن هناك تغيرات جديدة طرأت على المجتمع الجزائري الذي أصبحت فيه المحظورات أمرا عاديا و معهودا , كالجرائم و الاعتداءات و الجنايات التي لا يمر يوم لا نقرأ أو نسمع فيه عنها , و الزنا و الفاحشة و التبرج و اللباس السافر مثلا , أو الخمر الذي أصبح يباع على مرأى و مسمع من الناس و قاروراته التي فاقت قارورات المياه على الأرصفة و في الشوارع و الطرقات , و المخامر و المراقص التي صارت كالمقاهي في انتشارها , أو أن يعرف بأن هناك فنادقا تحمل أسماء شهداء ( هم نشء عبد الحميد بن باديس الذين فجروا الثورة التحريرية المباركة) صارت تتحول في المساء من فنادق إلى أوكار فساد يحدث فيها كل شيء و على مرأى و مسمع من الناس و أضحى الأمر عاديا جدا , بل أن هناك من يبيع الخمر تحت فرية "مُجاهد" و حماية هذه الصفة و لسنا ندري أي جهاد هذا , و المؤكد أنه ليس جهاد الشهداء و المجاهدين الحقيقيين الذين توفوا في سبيل هذا الوطن و هو الجهاد الذي دعا إليه عبد الحميد بن باديس , ماذا لو يعرف بأمر هذه الحقائق و الكثير من الحقائق الأخرى المخزية و الظواهر السيئة و الفضائح التي تعج بها حياتنا اليومية و التي تزكم الأنوف, ماذا سيفعل أرجوكم ؟!
لو يُطالع صحيفة لينسى هذه الهموم بعض الشيء , سيندب من مستواها الفكري المتدني , و سيعجب من المستوى المنحط الذي وصل إليه بعض أدعياء الصحافة و الإعلام , سيجد أوراق الصحف تعج بالدعايات المغرضة و الأكاذيب , و سيجد أخرى تلمع الأحذية بالحبر الأسود , أما عن أخبارها الثقافية فحدث و لا حرج , و الأكيد أن الثقافة التي كانت سائدة في وقته غير الثقافة التي نراها اليوم !!
لو يذهب إلى المسجد ليصلي سيتعجب , فحتى المساجد لم تسلم , و الآفات لاحقتنا إلى قلب المساجد , و ما سرقة أحذية المصلين و سياراتهم و النزاعات الموجودة داخل المساجد سوى أمثلة بسيطة , و لو فرضنا أن تلك الأيام صادفت رمضانا مثلا فإنه سيظن نفسه دخل إلى مرقد لا إلى مسجد , و سيصدم من جموع النيام و الراقدين الذين يجتمعون في المساجد أوقات الظهيرة , و أما عن أدعياء الدين و غيرهم فحدث و لا حرج , قد قولوه ما لم يقله , و صاروا يُكفّرون كل من خالفهم باسمه و اسم أفكاره و نهجه و آرائه و مقالاته , فاللهم إنا نسألك السلام و العافية ...
هذه بعض من المظاهر التي سيراها و التي لن تكفينا كما أسلفت الذكر كتب في وصفها و وصف أصحابها , فماذا عما سيواجه عبد الحميد بن باديس من أفكار و ظنون و عقول لو يعود إلينا , المصيبة أكبر بكثير , سيصادف ذهنيات عميلة لم يصادفها في عز أيام الاستعمار و يدرك بأن هناك استعمارا آخر اسمه الاستلاب الثقافي و الغزو الفكري هو أشد خطرا من الاستعمار المعروف أيامه , و سيعرف بأن هناك يدا لفرنسا في الجزائر و امتدادا لها و سيصدم من بعض الأفكار التي تروج لها هذه اليد صباحا مساء ...
كل هذا بعيدا عن السياسة , فماذا لو نعيد صياغة المقالة و نتناول السياسة في طرحنا ! سيسيل حبر كثير , فلو يقف على واقع سياسيينا و نخبتنا السياسة و يحادثهم و يحاورهم سيهجوهم في قصيدة طويلة لم يكتُبها في فرنسا حتى , و أغلبهم لا يمت للسياسة بصلة , و أغلبهم جمع كل الصفات الذميمة من نفاق و كذب و سرقة و زور و احتيال و غيرها , باستثناء المُخلصين و الغيورين و الوطنيين و المرابطين لأجل هذا الوطن و هم كثيرون حتى لا نظلم الناس أو نحكم عليهم بالباطل فهؤلاء لا نقصدهم أبدا بكلامنا و المقصود معروف .
لو يرى حال شبابنا (الذي أنا واحد منه) و يتحدث معه فسيتبرأ من بيته الشهير : يا نشء أنت رجاؤنا * و بك الصباح قد اقترب ... فواقع الشباب لا يبشر بخير , و الشباب المسكين لم يعد يفكر في بناء دولته و مجتمعه و الرقي بهما , قد صار يفكر في الهجرة للهروب من هذا الواقع , و قد ملّ الشعارات الرنانة و لم يعد يؤمن بها , و لم يعد كذلك يثق في أحد و لا يأبه بالسياسة و الثقافة و غيرهما , قد تغيرت وجهاته و رغباته و لم يعد ذلك الشباب الحالم الطموح , و صار متشائما متخاذلا و أصبح يشك حتى في نفسه , و أما عن الآفات التي فتكت به فحدث و لا حرج ...
قد يتهمني البعض بالتشاؤم و السوداوية لكن الحقيقة أحلك من هذا بكثير و الأمور لا تبشر بخير أبدا , رغم ما يوجد من مؤشرات إيجابية تحثنا على التفاؤل من جهة أخرى. 
ظلموك يا ابن باديس و خانوا أمانتك , فلا جزائر اليوم تلك الجزائر التي أردتموها لنا , و لا هي تلك المُسلمة العربية الأصيلة التي قدمتم كل شيء لتكون , فقد خلف من بعدكم خلفٌ أضاعوا معالمكم و ثوابتكم , فحيّدوا الإسلام و أقصوا العربية و و دنّسوا الأرض الطاهرة ...
جمال الدين الواحدي في 05 - 03 – 2014م