20 ماي 1965 غادرالإمام محمد البشير الإبراهيمي الفانية إلى الباقية
بتاريخ 20 ماي 1965 غادر الفانية إلى الباقية الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي وصفه الإمام عبد الحميد بن باديس بأنه "فخر علماء الجزائر (1)"، ووصفه الزعيم التونسي العالم محيي الدين القليبي بأنه "إمام هذا الزمان، المصلح، المجدّد، مفخرة علماء الإسلام (2)".
وأود بهذه المناسبة - الذكرى الخامسة والأربعين لوفاة الإمام الإبراهيمي - أن أقف للتذكير بأحد أيامه المشهودة ومواقفه المعهودة، وهو خطابه العظيم الذي ألقاه في باريس يوم 29 جانفي 1952.
افترض الإمام الإبراهيمي فرصة عقد الدّورة السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة في قصر "شايو" بباريس فذهب إليها ليلتقي وفود الدول العربية والإسلامية إلى تلك الدورة، ويطلب منها عرض القضية الجزائرية. وقد اصطفى الإمام لصحبته في تلك الرحلة الشيخ محمد خير الدين، نائب رئيس جمعية العلماء، والشيخ العباس ابن الحسين عضو المكتب الإداري للجمعية.
اتصل الإمام الإبراهيمي برؤساء الوفود العربية والإسلامية، وطلب منهم عرض القضية الجزائرية على الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأسوق هنا شهادة رئيس الوفد العراقي الدكتور فاضل الجمالي وزير الخارجية، الذي قال: "زارني في "أوتيل كريون"، محل إقامتي، وفد جزائري هام يرأسه الشيخ البشير البشير الإبراهيمي - رحمه الله - وقد بهرني الشيخ من لقائنا الأول هذا بما يتحلى به من مهابة، وما ينطق به من حديث شيّق، وحجج دامغة. اقترح على الوفد عرض قضية الجزائر على الجمعية العامة في دورتها الحالية (3)".
لم تُعرض القضية الجزائرية على الجمعية العامة للأمم المتحدة "مجاملة لفرنسا الدولة المضيفة.. ونفوذ فرنسا ومن ورائها الدول الغربية مايزال قويا في الأمم المتحدة(4)"، فإذا كانت قضية المغرب - وهو أقل أهمية لفرنسا - قد أجّل النظر فيها إلى الدورة القادمة (السابعة) فكيف تقبل فرنسا عرض القضية الجزائرية، وفي عقر دارها؟ والجزائر في زعمها جزء منها. لم يحقق الإمام الإبراهيمي الهدف الذي سافر من أجله إلى باريس، ولكنه اهتبل فرصة وجود ممثلي الدول العربية والإسلامية ليعرّف الجاهلين منهم بالقضية الجزائرية، ويذكّر بها الناسين، وينبّه الغافلين.
أقام الإمام الإبراهيمي لتلك الوفود مأدبة عشاء يوم 29 - 1 - 1952 في فندق "العالمين"، ومن أبرز الشخصيات التي حضرت تلك المأدبة عبد الرحمن عزام أمين عام جامعة الدول العربية ونائبه أحمد الشقيري، وفارس الخوري رئيس الوفد السوري، وفاضل الجمالي رئيس الوفد العراقي، وظفر الله خان رئيس الوفد الباكستاني ومستشاره المستشرق النمساوي المسلم محمد أسد، ووفود الهند، وأندونيسيا، واليمن، وليبيا..
كما حضرها من مناضلي المغرب العربي محيي الدين القليبي، وصالح بن يوسف، من تونس، والمكي الناصري، ومحمد الحسن الوزاني، وأحمد بن سودة من المغرب، وفرحات عباس، وأحمد بومنجل من حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وأحمد مزغنة وحسين الأحول من حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية من الجزائر.
وبعدما تناول الحاضرون عشاءهم، ألقى أمين عام جامعة الدول العربية كلمة أشار فيها إلى أن مستقبل الأمة العربية أحسن من ماضيها القريب، ونصح أبناء المغرب بتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم، خاصة أن عدوهم واحد هو فرنسا، التي بلغت حدا من الطغيان لم يروِ له التاريخ نظيرا، وأكد في كلمته أنه لا أمل في استرداد أمجادهم، وإقامة نهضتتهم إلا على مبادئ محمد - صلى الله عليه وسلم، وأنهى كلمته بالإشادة بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين "التي تنشر الدين المحمدي الفطري، بعيدا عن التّعصّب، بعيدا عن الخرافات، بعيدا عن التدجيل (5)".
وما إن أحيلت الكلمة إلى الإمام الإبراهيمي حتى أشرأبّت الأعناق وشخصت الأحداث، وخشعت الأصوات، فارتجل خطابا بديعا، وليس بدعا من خطبه، وأترك وصفه لأحد فصحاء العرب، وهو فارس الخوري، الذي قال: "... إنني حضرت في منظمة الأمم سنين، وسمعتُ جيمع خطبائها، وما منهم إلا الخطيب المفوّه الممتاز، لأن أممهم اختارتهم وذفت بهم إلى منظمة الأمم ليمثّلوها بفصحاتهم وأفكارهم واقتدارهم، فهم فصحاء وذوو بيان، وقد يقف الواحد منهم فيتكلم الساعة والساعتين لا يتلعثم ولا يتلجلج، ولكني أشهد - فثقوا بشهادي - أنني لم أتأثّر بكلامهم مثل تأثري الليلة بكلمة فضيلة الشيخ الإبراهيمي.. إنني أشهد ثانيا بأنه مادام في الجزائر مثل هذا الشيخ الجليل فإننا - والحمد لله - مطمئنون على عروبتها وشرقيتها، ولن تضيع أمة وفيها الإبراهيمي، ولن نخيب أمة وفيها مثله.. وإنه ليس بعد بيان البشير بيان (6)".
حيّا الإمام الحاضرين "باسم الجزائر العربية، المسلمة، المجاهدة، الصابرة، ووصف باريس بأنها "منبع شقائنا، والصفحة العابسة في وجوهنا.. فهيهات أن نصفح عن باريس أو نصافحها بعد أن جنينا المرّ من ثمراتها، وهيهات أن يسميها دار العلم من لم ير منها إلا الظلّم، وهيهات أن يدعوها عاصمة النور من لم تغشه منها إلا الظلمات، وهيهات أن يلقّبها دار المساواة من لم تعامله إلا بالإجحاف".
وبعدما أشار إلى الحاضرين الذين جاءوا إلى باريس ليدافعوا عن الحقوق المغصوبة، وليجادلوا عن الكرامة المسلوبة؛ قال في لهجة شجاعة، بل متحدية، متوعّدة، مهدّدة لفرنسا: "وإن وراءهم (أي الحاضرين) لشبابا سينطق يوم يسكتون، وسيتكلم بما يخرس الاستعمار ويسوءه، وإن بعد اللّسان لخطيبا صامتا هو السّنان، وإننا لرجال، وإننا لأبناء رجال، وإنّنا لأحفاد رجال.. وإن فينا لقطرات من دماء أولئك الجدود، وإن فينا لبقايا مدّخرة سيجلّيها الله إلى حين".
وقد انتقد الإمام الذين يلومون الأقوياء على عتوّهم وطغواهم، وسخر ممّن يحسبون أن الاستعماريين ستستيقظ ضمائرهم، وتلين قلوبهم المتحجرة، ويتوبون من جرائمهم، وشبّه ذلك الطمع في توبة المستعمرين بطمع الخروف الوديع في توبة الذئب المتوحش، ثم قال: "فإن أردتم أن تروا المثل الخارق من توبة الذئب فقلّموا أظافره، وأهتِموا أنيابه.. إن هذه هي الأمثال التي يعقلها الطغاة، وإن هذه هي التوبة التي يجب أن يحملوا عليها حملا، ويلجأوا إليها إلجاءً (7)".
كلما أقرأ هذا الكلام، وأمثاله كثير، للإمام الإبراهيمي أتذكر ما كتبه الكاتب التونسي صالح الحاجة عنه، وهو: "إن هذا الرجل كان جريئا إلى حد أنك وهو ميت تخشى عليه من قوى البغي والطغيان.. كان يكتب عن قضية الجزائر وكأنه يطلق النار (8)".
وكان الزعيم مصالي الحاج قد أقام مأدبة لتلك الوفود، وألقى فيها خطابا، كان دون خطاب الإمام الإبراهيمي ليس من حيث المبنى فحسب؛ ولكن من حيث المعنى أيضا.
فبينما كان خطاب الإبراهيمي، المتهم هو وجمعيته بمهادنة الاستعمار، وعدم الاهتمام والعمل للاستقلال، قويا متحديا للاستعمار، مهددا له في عقر داره، كان خطاب الزعيم مصالي عاديا، بل متوسّلا للفرنسيين "أن يعيدوا إلينا حريتنا، ويعاملونا على قدم المساواة والأخوة (9)".
أنزل الله شآبيب رحمته على روح عبده البشير، ومنّ عليه برضوانه الوفير، وأكرمه بجوار نبيه البشير النذير.