أبدأ بالقول بأن الحروب تندلع لأبسط سبب ظاهر لكنها تعبّر باندلاعها عن اختلال في حقوق الشعوب والأوطان يظل تواقا للتعبير عن نفسه حتى تواتيه الفرصة، فلا يصبح بوسع هذا الاختلال إلا أن يندفع إلى المشاركة في المواجهة التي طال انتظارها والتي ينعقد الأمل عليها في تغيير الواقع بعيدا عن سطوة مؤامرات المفاوضات ومرجعيات الاتفاقات ومنطوقات المعاهدات وتوازنات القوى.
وهذه العوامل الأربعة هي الأكثر تأثيرا الآن في مصير كل صراع، بل في مصير كل ثورة شعبية أيضا.
لا يمكن لأحد أبدا مهما أوتي من قدرات سياسية وفكرية أن يتنبأ بالبؤرة التي تندلع منها شرارة البداية، وليس من قبيل المبالغة القول بأن الأسباب التي تشعل الشرارة تبدو في الغالب بعيدة كل البعد عن علوم الاحتمالات الرياضية، كما أنها بعيدة أيضا عن حسابات السياسة التقليدية، وربما أن أحدا لم يكن يتوقع أن تبدأ الحرب العالمية الأولى من سراييفو ولا الثانية من بولندا، ولماذا نذهب بعيدا وقد رأينا بداية الربيع العربي على يد البوعزيزي في تونس على حين فجأة.
ربما كان السؤال التالي يتصل بالحديث عن حقيقة الأسباب الدفينة التي تكمن وراء الحرب القادمة أو على الأقل وراء توقعها. ومن الإنصاف للحقيقة أن نقفز هنا من الأسباب المصاغة في عبارات سوسيولوجية وجيوب استراتيجية إلى التعبيرات الأكثر وضوحا عن هذه الأسباب، على نحو ما تتجلى في ديناميات الحياة السياسية والعقلية والاقتصادية الاجتماعية على أرض الواقع.
ومن الإنصاف للحقيقة مرة أخرى أن نصوغ هذه الأسباب على هيئة أسئلة تنبئ بوضوح عن أن شبح الحرب تحول من الخيال إلى ما يقترب من الواقع الأليم:
1. هل يمكن أن يصبر الشباب في الأراضي التي تسمى بدول الجنوب على سياسات الحد من الهجرة إلى الشمال، مع أن هذه الهجرات باتت الأمل الوحيد في تغيير الواقع وبخاصة مع تواطؤ الغرب الأخير في ٢٠١٣ في دعم الدكتاتوريات القاسية بل وإعادتها إلى سدة الحكم رغم أنف الشعوب استنادا إلى دعاوى زائفة؟
2. لن يكون أمرا يسيرا أن يندفع الشباب المحبط ليستولي بنفسه على هذه البلدان التي تنعم بكل حقوق المتعة وتضحك عليه بمعسول القول، فإذا أراد التغيير عن طريق الصناديق فرضت عليه طغيانا الأقلية المتعسكرة والمعسكرة من الغرب على وجه التحديد، وذلك على نحو ما حدث في غزة، ثم في غيرها.
3. هل يمكن أن تقبل جموع معتنقي الدين الذي أثبتت الإحصاءات الأخيرة أنه الدين الأول في العالم أن تستمر وأن تسود هذه الروح العدائية تجاه معتنقيه وحقهم في التعبير عن حبهم لهويتهم، وقد وصلت هذه الروح إلى حد الحساسية المفرطة تجاه مجرد نجاح حزب إسلامي الاسم في تحقيق فوز انتخابي مستحق في الوقت الذي تعتز فيه الأحزاب الأوروبية بوصف المسيحي في أسمائها.. كيف يمكن إقناع طفل صغير والحال هكذا أن الحرب الخفية المسيطرة على سياسات الغرب ليست حربا خفية على الإسلام؟
4. كيف يمكن إقناع الجماهير الغفيرة بهذا التفاوت الرهيب في الدخل الذي لم ينشأ إلا عبر آليات توزيع الثروة على النمط الغربي؟ وهل يمكن حقيقة الدفاع عن هذه السياسات ونحوها إذا كانت النتائج متشكلة على هذا النحو القاسي الذي يبدو أنه لا خلاص منه إلا بحرب تقلب الأمور رأسا على عقب؟
5. كيف يمكن الوثوق بالنظام الدولي الذي تبلور في ميثاق الأمم المتحدة في منتصف الأربعينيات صائغا لنظام تعاهدي، بينما تسيطر المصالح المادية وحدها على التوجه الحقيقي في صياغة أي قرار فاعل يستند إلى الأبواب والنصوص المتعلقة بعقوبة من لا يلتزم بالميثاق؟ كيف يمكن تبرير فروق التعامل وازدواجية السياسات؟
6. كيف يمكن تصديق فكرة حفاظ الغرب على حدود دنيا من حقوق الإنسان بينما الآلاف يقتلون في ظل تغاضي الدول الغربية عن سياسات الاحتلال الوطني المتمرس بالدكتاتوريات العسكرية بل وتورط بعض هذه الدول في تقديم صور مختلفة من الدعم الفعال لهذه الدكتاتوريات المبيدة للإنسانية في إطار رغبة (غير معلنة وغير مخفية) في محاربة كل صعود للفكرة الإسلامية مهما كانت صورة تجليها.
7. كيف يمكن الخلاص من فكرة سيطرة الإمبرياليات الاقتصادية على وسائل الإعلام؟ وكيف يمكن حماية هذه الوسائل من سوء توظيفها سياسيا أو في الصراع السياسي؟ وليس ببعيد أن المواطن المسلم أو العربي لا يزال في عجب من الاستخدام المفرط للإعلام لشيطنة كل تجربة إسلامية بصورة لا تخفي الترصد ولا تنكر الإصرار ولا تتوقف عند أي سقف، حتى أن الأمور تبدو في صورة شبيهة بما ترويه كتب التاريخ عن حروب الإسلام الأول في مواجهة أحزاب الجاهلية أو جماعات الضغط الاجتماعي فيها، وهو تصوير يصيب المنتصر بضرر أكبر من ذلك الذي يصيب من يجد نفسه في موقع المظلوم.
8. كيف يمكن لأي مفكر أو باحث أن ينفي ما يتضمنه الخطاب الغربي من دلالات واضحة تؤكد فكرة الارتباط بين المناداة بالعدالة وحقوق الإنسان من ناحية، وبين ما تتميز به منطقة ما من موارد مادية أو عائدات نفطية، وهنا يستدعي مواطنو المنطقة العربية الفوارق الواضحة بين الحالتين الليبية والسورية، ومن الحق أن نقول إن الدفاع عن تباين المواقف الغربية في الحالتين يمثل أمرا صعبا للغاية.
9. هل يمكن لنا أن ننكر أن دواعي الحرب بدأت تزداد، وأن وتيرة الحديث عن حتميتها التاريخية لم تكن في يوم من الأيام على ما هي عليه اليوم من قوة، وهو ما يعني ببساطة شديدة أن الحروب النفسية الممهدة قد مضت عجلتها للأمام..