الثورات العربية..بين سلطة الإعلام و إعلام السلطة
الحمد لله لأن أبي ليس رئيس دولة ، و لأن أخوالي و أعمامي ليسوا وزراء ، و لم يكونوا يوما كذلك ، الحمد لله أيضا لأنني لست مواطنا تونسيا ، و ليست جنسيتي مصرية ، و ليست إقامتي ليبية ، و ليست أمي يمنية ، و لا أفكر في أن تكون زوجتي سورية .
ما أصعب أن تكون حاكما عربيا في هذه الأيام ، و ما أسوأ أن يكون اسمك بشار الأسد ، أو علي عبد الله صالح ، و كم سيكون الأمر مذلا و مدعاة للسخرية، لو كنت رجلا اسمه حسني أو لقبه ابن علي .بالنسبة إلي ، كنت سأنفجر ، كنت سأنتحر ، كنت سأصادر حياتي ، كنت سأعتقل كلماتي ، كنت سأطلق ذاتي ، كنت سأقتل أمنياتي ، لو راودتني لأكون مكان القذافي .
كل ذلك صعب ، لكن الأصعب منه ، أن تكون صحافيا بين كلمات الرصاص في شارع بورقيبة ، و مراسلا تحت صليل السيوف و أقدام الجمال في ميدان التحرير ، صعب كذلك أن تجهر بأنك إعلامي في حضرة الخناجر بالساحة الخضراء ، ربما كنت ستختبئ في بقايا رصاصة ، قتلت طفلا صغيرا ، كي لا تقتلك الرصاصة القادمة ، لأن القناصين فوق العمارات ، تحت جثث القتلى ، في ثنايا العبارات ، بين كلمتين في تقريرك ، ربما هم بعد الفاصلة و قبل النقطة ، في السطر الأخير من شوارع صنعاء ،و ربما لن تتمنى أن يكون اسمك جيل جاكيه ، الذي ـ لو عاد إلى الحياة ـ لاختار الموت على أن يكون مراسلا في درعا و حلب .
سيكذب كل صحافي يقول بأنه في تلك المواقف و المواقع لا يخاف ، لأنه ـ ببساطة ـ من فرط خوفه خائف من أن يخاف . الخوف من حقه ، و من واجبنا أن نقدر خوفه ، لكن من واجبه أن ينقل لنا الحقيقة كيف يراها ، لأنه عيننا الثالثة ، التي لا نريدها أن تكون عوراء ، و لأنه من حقنا أيضا أن نرى الحقيقة ، و نسمع الحقيقة ، و نستهلك الحقيقة .
عندما يداهمني الإعلام بأخباره،تزول الفوارق بيني و بين المتظاهر في تونس ، و المحتج في مصر، و المعتقل في اليمن ، و الجريح في ليبيا ، و القتيل في سوريا ، لا فرق بيني و بينه ، ربما الكلمات التي تخترق سمعي ، هي الرصاصات التي تخترق صدره .
الإعلام ، حيّرني و ما غيرني ، بل أدخلني لعبة الغميضة ، و جعلني في حالة من الضبابية ، بين مئات الأخبار التي أقنعتني و ما أقنعتني ، و بين حقيقة أفتّش عنها ، و كِذبة تفتش عني . كل الأخبار ، حُبلى بألف انفجار ، و العناوين بين موت و اختطاف و انتحار ، و التقارير بين هدم و خراب و دمار، و العاجل بين قتل و تنحية و فرار ،هنا ، أجدني أشبه برجل أضاع خاتمه في شارع ، و يبحث عنها في شارع آخر ، لأن الأول مظلم ، بينما الثاني مضيء ، كذلك أراني بين إعلام سلطة ، و سلطة إعلام ، أو بالأحرى ، بين إعلام حكومي مكبل ، و إعلام غير حكومي مظلل ، و كأنني أبحث عن ظل مستقيم لعود أعوج .
لم أكن أعلم ، أن الإعلام لا يعلم ، بأنه يتوجب عليه أن لا يكون في صف الغاضبين ، و أن لايقف مع المغضوب عليهم ، و ليس من المروءة أن يطبل في النهاية لأحد المتناحرين .
الشعب يريد إسقاط النظام ، و النظام يريد إسقاط الشعب ، و الإعلام يريد إسقاط من يريد ، ليس بالمنطق ، و لكن بما يريد . الكل يريد ، و أنا أريد ، ليس إسقاط النظام و التصفيق للشعوب ، و ليس التطبيل للنظام و الاستهتار بالشعوب ، و ليس كذلك الانزلاق و راء الإعلام ، لكنني أريد أن أصنع موقفي بنفسي ، أريد لذاتي أن ترسم ذاتي ، لا أريد أن أعطي للإعلام قلبي ، لكنني أريد أن أعطيه سمعي و عقلي ، و لا أريده أن يعطيني ما يريد ، و لا حتى ما أحب أو أريد ، بل أريده أن يعطيني ما يريده الواقع ، ما يريده المنطق ، و ما تريده الحقيقة ، أريده أن يعطيني قلما و ورقة بيضاء ، أكتب فيها ما يقنعني ، و لا أريده أن يعطيني ورقة كتب فيها ما يقنعه .
أحب أن يكون الإعلام تنويريا ، و لا أحبه أن يكون تثويريا ، أحبه أن يكون محايدا ، و لا أحبه أن يكون مؤيدا ،أحبه أن يبكيني بالحقيقة و التعليم ، و لا أحبه أن يضحكني بالتدليس و التعتيم ،أحبه حين يحترمني ، و لا أحبه حين يمتهنني .
أريد أن أبحر في ذكرياتي قليلا ، أريد أن أجذف إلى الخلف ، في قارب يعيدني إلى الأمس القريب، أريد أن أتجول في مصطلحات الإعلام ،يوم كانت الشعوب لا تفتح أفواهها إلا صراخا تحت سياط الجلادين ، و كيف صارت تفتحها في وجوه الحاكمين ، كيف كان الذي يسب النظام غادر ، و كيف صار الذي يسب الرئيس ثائرا ، و كيف صار المتمرد حاكما ، و كيف صار المقهور قاهرا ، و كيف كانت الثورة إرهابا، و كيف صار الإرهاب ثورة ، و كيف كان القتيل ظالما ، و كيف صار القاتل عادلا ،و كيف كان الولاء خيانة ، و كيف صار النفاق وفاء ، و كيف كان الإعلام أعمى ، و كيف صار الإعلام يبصر ، و كيف كان الإعلام أبكم ، و كيف صار الإعلام ينطق ، و كيف كان الإعلام أطرش ، و كيف صار الإعلام يسمع ؟
في تونس ، قال الإعلام بأن الآلام حركت الآمال ، و أن حنبعل ، صفعته صافو ، و في مصر، قال بأن الأحمال أيقظت الأحلام ، و أن فرعون اليوم ، جاءه ألف هارون و موسى ، و في اليمن، قال بأن صالح أصبح طالحا،و استولى على عرش بلقيس ، و في ليبيا ، قال بأن الثروة صنعت الثورة ، و أن القذافي ، قذف في حق عمر المختار، و في سوريا ، قال بأن الأسد مارس عليهم قانون الغاب ، الذي منعته اللبؤة زنوبيا .
الخطأ الذي ارتكبه الإعلام ، هو تعاطيه المشؤوم ، للربيع المزعوم ، من حيث هو ورود و عطور ، و تناسى بأن الشوك قد يكون في الورد الذي يجرح الكف ، و أن السم قد يكون في العطر الذي يملأ الأنف ، و تناسى كذلك ، بأن بعد الربيع فصلا اسمه الصيف ، تذبل فيه الورود، و تتعكر فيه العطور .
العرب ثاروا ، و الغرب غاروا ، هكذا أرادنا الإعلام أن نفهم ، و أرادنا كذلك أن نؤمن بأن الديمقراطية الغربية هي الدين الجديد ، من حيث هي قرآن اكتتبته العلمانية ، و شرع أوحته الماسونية ، آياته نظريات وضعية ، و عقيدته شعائر وهمية ، إعلامنا أرادنا أن نتبنى جزافا ، دينا ، الإيمان به كفر ، و الكفر به إيمان .
لست يمينيا ولا يساريا ، و لست شيوعيا و لا اشتراكيا ، و لست مؤيدا و لا معارضا،و لست مائلا لا إلى هؤلاء ، و لا إلى هؤلاء ، و لست ملكا ، و لست شيطانا ، لكنني عقل لا يقبل كل شيء ،و لا يرفض كل شيء ، و لسان يذوق كل شيء و لا يطعم كل شيء ، كذلك هي عقليتي في التعامل مع الإعلام .
أكره السياسة ، مثلما أكره البطاطا المسلوقة و الرياضيات ، و أحب الحقيقة ، مثلما أحب أمي و كرة القدم ، و أحب كذلك الحريات التي تحترم الحريات ، و الديمقراطية المصنعة محليا ، و ليست تلك التي أرادنا الإعلام أن نستوردها .
أعتقد أن الإعلام ارتكب خطأ لا يغتفر ، و هو الذي سوق لنا الديمقراطية الغربية على أنها سيارة فورد الأمريكية ، الجاهزة للاستعمال المباشر ، و تناسى بأنها تشبه إلى حد بعيدزراعة القلب ، التي لن يتقنها الجراح إلا إذا ضحى بسنوات طويلة من عمره في الدراسة و التربص ، و التدرج وفق سلم التخصص .
أتهم الإعلام بأنه محرض على الثورات ، سواء عمدا أو عن غير قصد ، و هو الذي يخدر إدراك الناس و يسترهب وعيهم ، بفضل سحر البيان و بلاغة الصورة ، و في بعض الأحيان بالكلمات العنيفة و الألفاظ المخيفة ، و العبارات المروعة و الجمل المرعبة ، و ما يقرنها من عناوين مثيرة و تفاصيل منفوخة ، إضافة إلى الشائعات المظللة و الروايات الزائفة ، التي لطالما أثارت حفيظة المشاهدين ، و امتعاض المتتبعين ، و خلفت فتنة بيِّنة توتر العلاقات و تنخر الروابط ، و تنذر بصدام يوشك أن يقع ، و احتقان لا يحبسه عن الانفجار سوى بدء المظاهرات ، و كأن الإعلام يبحث عن قطرة تفيض الكأس أو شرارة تلهب الهشيم ،و يخرج بعدها بذنب يلقي به بريئا.
المتهم يقول بأنه بريء ، و أن ما فعله لا يعدو أن يكون مجرد وصف للحقائقو الوقائع ، مستشهدا بشهود مفبركين وضعوا السيناريوهات لكل الاحتمالات ، ليبقى الجميع يتساءل عن موقع المهنية من الإعراب ، و عن الحسيب و الرقيب ، و عن الحياد و الشفافية ، و عن الضمير و المبادئ و الأخلاق ، و بدا الأمر كأنه بداية نهاية الثقة و سحب البساط من تحت أقدام سلطة لطالما سميت بالرابعة .
الثورات العربية ، مرآة عاكسة للإعلام ، هكذا أراها أنا ، و قد يرى غيري غير ذلك ، و هكذا حُق لي أن أتساءل:
هل فعلا ، الثورات العربية مرآة عاكسة للإعلام ؟ ما يعني أن الثورات تعبر عن واقع الإعلام .
و هل الإعلام هو المشجع و المحرض على الثورات ؟ أم أنالثورات مادة إعلامية تستهوي الإعلام؟و بعبارة أخرى ، هل يتعامل الإعلام بفلسفة المصلحة ، فأينما تمت فتلك السياسة ؟
و لماذا يصر الإعلام على أن الثورات ، نخوة عربية ، و ليست مؤامرة غربية ؟ و كيف نفسر التقارير و الاعترافات الأجنبية الفاضحة لمشروع المؤامرة ؟
و ما سر الدعم الغربي للثائر العربي ، أم للضرورة أحكام ؟
و هل يعقل أن الفايسبوك حزب معارض ؟ و لماذا يغير توجهه كلما تعلق الأمر بالغرب و بعض من يحسبون على العرب ؟
و هل قادة الثورات شباب عربي مسلم ، أم شباب معرب ممسلم ، أم أنهم جنس آخر ؟
هل مشكلتنا مع الإعلام الحكومي ، أم مع الإعلام الحر ، أم مع صحافة المواطن ؟ و من يضمن أصلا صحة ما يُتداول هنا و هناك ؟
أليس تناول القضايا من طرف واحد و تغييب الطرف الآخر ، هو نوع من التعبير عن المواقف ، حتى لا نقول شيئا آخر ؟ و ما سر البرامج الموجهة ، و من يوجهها ، و من يستفيد منها ، و لماذا تبيض وجوها وتسود أخرى ؟ و لماذا تغيب قوة الحجة ، و تبرز حجة القوة ؟
أليس قول أنصاف الحقائق نوعا من التعتيم ؟ و تحديد الحريات نوعا من التكبيل ؟
و لماذا تتوحد المسميات و تختلف التسميات ؟ و لماذا يسيس الإعلام الرياضة ؟
و هل الإعلام دمى تحركها الأصابع ، أمأصابع تحرك الدمى ؟
و قبل كل ذلك ،هل نحن أمام إعلام أزمة ، أم أزمة إعلام ؟