بأضعف الإيمان، و أغلظ الأيمان، لو كانت الجزائر فتاة لتزوجتها، و لو لم أكن جزائريا، لمزقت هويتي، و طلقت جنسيتي، و انخلعت من كل وثائقي، لعل الجزائر تهبني هويتها، و تعطيني جنسيتها، و تمنحني وثائقها، و لو كنت و الجزائر كلمتين في جملة واحدة، لاخترت أن أكون مضافا، و الجزائر مضافا إليه.
كلمات ليست للغزل، و إن كان من حب الجزائر ما قتل، لكنها ببساطة تعبير عما يجتاح أفكارنا، و يختلج في صدورنا، و يعمر قلوبنا، تجاه بلد نعيش فيه لأجله، و يعيش فينا لنا، لأنه تاج فوق رؤوسنا، لا يراه إلا غيرنا، و إن كنا ـ كجيل ثان ـ نقول هذا بالعبارات، فإن جيلنا الأول يقولها بالعبرات.
و بين عرق و عرقية، و جذور أصلية، و بين انتماء و ولاء، و إخلاص و وفاء، نختلف لنتفق حول حبنا و تعلقنا ببلدنا، لكن، ما لا يمكن أن نتمارى فيه، هو أن غرامنا بالجزائر، مرده كذلك إلى جمال الجزائر، و هو ما يقره غيرنا قبلنا.
لا أحد ينكر، أن الجزائر لوحة فنية نادرة، و متحف طبيعي بامتياز، و هي التي جمعت بين المتناقضات، ذلك أن الأشياء بأضدادها تعرف، فالجزائر، صحراء و مروج، و شمس و ثلوج، واحات خصبة، و حدائق غلبا، رمل و بحر، زيتون و تمر، أو لنقل، بأنها جنة تسر الناظرين.
سلوا زوارها عنها، فسيعترفون بأن الداخل إليها مأسور، و الخارج منها محسور، و الماكث بها مسحور، و سيشهدون بأنها تذهب الحزن، و تريح البدن، و أنها دواء الروح و الجسد.
الجزائر، فاتنة تصارع حولها الملوك، و تنافس من أجلها السلاطين، و تودد إليها الأمراء، و تذلل إليها كل ذي سلطان و جبروت، و هان من أجلها كل ذي عز و ملكوت. هي شمس إذا أشرقت أفلت كل النجوم، و سجدت لها الغيوم، و راودتها عن نفسها السماء، لأنها ببساطة جميلة حسناء، و كذلك نقص عليكم من أنبائها.
عاصمتها، و من لا يعرفها، و هي قلبها النابض، جوهرة تتوسّط حزاما لا يسع كلّ الجواهر، و وسام معلّق على صدر كلّ جزائري، بل هي عزّ البلاد و مفخرة العباد.
العاصمة، ليست مجرّد بنايات و عمارات، أو مديريّات و وزارات، أو قنصليّات وسفارات، لكنّها أيضا، شواطئ و بحار، و وديان و أنهار، و ورود و أزهار، و بساتين و ثمار.
جمالها غار منه الجمال، و بهاؤها استحيى منه الخيال، شواطئها تنتحر فيها النّجوم، و تتهاوى فيها الغيوم، غيرة من رمالها البرّاقة و مياهها الدّفّاقة، و ما أجمل سماءها و هي تعانق بحرها، هناك عند الأفق. أمّا مقام الشّهيد، فهو مقام الكبار، مقام أولئك الذين وُلدوا ليموتوا، وماتوا ليعيشوا، جدرانه تحمل معلّقة طويلة لشاعرة فذّة اسمها الثّورة.
قصورها النادرة، و منازلها الفاخرة، تقول بأن الحضارة وطأتها منذ أمد بعيد، و تعتزّ إذ تعترف بأنها عربية أصيلة، و حتى هندستها المعمارية توحي بذلك.
العاصمة، أسطورة ألفها الفينيقيون، و مسرحية مثلها الرومان، و حلم راود الإسبان، و كابوس أزعج الفرنسيين، و ميراث وصل إلينا.
أما قسنطينة، فهي تلك المدينة الفاضلة، أو مدينة الجسور المعلّقة، جنّة بِرَبوَةٍ شابهت حدائقك يا بابل، مشيّدة على صخور صلبة لكنّها منبع للأنهار، و منبت للأزهار، و منبر للثمار، إنّها أمّك يا ابن باديس.
سيرتا، هكذا أسماك الأولون، و مدينة الهوى و الهواء، بها أسماك اللاحقون، أولئك المغرمون، اللذين سحرتهم بجمالك و لطافة هوائك، و أغريتهم ببساتينك الغرّاء، و طبيعتك العذراء، و أغويتهم في الشّتاء بحلّتك البيضاء، و استدرجتهم في الرّبيع بجلاّبتك الخضراء، أطمعتهم و منعتهم، فانتحروا من على جسورك، و ارتطموا في الأسفل بصخورك.
مدينة الجسور المعلّقة، متحف طبيعي، و منجم ثقافي، و إرث تاريخي، ومكسب حضاري، ومقصد سياحي، فمدينتك يا أحمد باي بقيت وفيّة لك، و هي التي حافظت على قصرك التّحفة، الذي هو علامة عربية خالصة، و هندسة إسلامية خالدة، و لو ترى يا قسطنطين جسورها المعلّقة، التي تحاصرها المزارع ، وتحفها المراتع، و تداعبها المنابع، وتغار من علوها الطيور الجوارح، حقولها و أزهارها تتراقص على أنغام موسيقاها الأندلسية، لتجد المياه نفسها مجبرة على التّصفيق.
شوارع مملكتك يا دومينوس، أروقة مفصّلة، جميلة و جمالها في ضيقها، أما بناياتها، فهي تعترف بأنها آثار لبصمة عربية، و لمسة إسلامية.
و أما برج بوعريريج، أو كما يحلو للبعض أن يسميها بمفترق الطّرق أو همزة الوصل، وهي التي تصل بين الشّمال و الجنوب، و تربط الشّرق بالغرب، بحكم موقعها الاستراتيجي وتموقعها الطّبيعي . عاصمة البيبان، عصارة مزيج بين الطّبيعة و التّاريخ، و ثمرة تزاوج بين الثّقافات، جبالها جدد بيض في الشّتاء، و مروج خضر في الرّبيع، كأنها زرابيّ مبثوثة، بُعثرت عليها الورود الزّاهية، و الأزهار الزّاكية، فكأنما هي بخّاخات عطر طبيعية، أمّا نسيمها، فهو المداعب للجوارح، و أمّا ماؤها، فلكم أن تتصوّروا انسيابه عبر وديانها وأنهارها، في مشهد لا يتخيّله إلاّ المغرمون بالطّبيعة.
برج بابا عرّوج، هي أيضا صور تذكاريّة، و معالم أثريّة، و مواقع سياحيّة، فبالإضافة إلى طبيعتها الخلاّبة، التي هي مزار يستهوي من يبحثون عن الهدوء و الجمال، ومن يفتّشون عن راحة البال، هناك أيضا ما خلّفته الثقافات و الحضارات ، وما أفرزته الأيّام والسنوات، فالإغريق و الرّومان أَبَوا إلاّ أن يتركوا بصماتهم، و الأتراك و ضعوا لمساتهم، و أما الفرنسيّون فقد خلّفوا بناياتهم، و كتبوا عنها شهاداتهم، شهادات يقرؤها الماضي، و يسمعها الحاضر، و يفهمها المستقبل.
و بمسافة مرمى حجر عن البرج، تلوح منطقة القبائل، و هي إحدى الرائعات النادرات، الغانيات الجميلات، ماضيها عريق، وحاضرها بريق، لم ترضخ للمحن، و لم تركع للزمن، لأنها ـ ببساطة ـ قبائلية خالصة، و ما أجملها حين تداعب مياه المتوسط، في مشهد رائع يصور اِلتقاء البرّ بالبحر، على مرأى الغابات الخضرة، و البساتين النظرة، في وقت يستمتع الزيتون بمشاهدة الأمواج وهي تدغدغ سفوح الجبال، لكنه بالمقابل ينتحر في المعاصر، حزنا لأنه لم يشاهد مسرحية العشق، التي تجمع البحر بالسّماء، و لم يفهم سرّ اتصالهما عند كلّ أفق، و ما أجمل قمّة "يمّا قورايا" وهي تقتحم الغمام، لتثبت بأنها شامخة، و لتقول بأنها شاهقة، و ما أروع مروجها، و هي تتراقص على أنغام معطوب الونّاس وإيدير و آيت منقلاّت. و كم كان وادي الصومام صادقا و هو يروي تفاصيل مؤتمر عُقد به ذات صفحة من صفحات تاريخ الجزائر.
منطقة الأوراس، هي الأخرى فصل من فصول الجزائر، و ما أجملها من منطقة، و هي التي تستهوي قلوب و عقول العارفين بالسياحة، ذلك أنها تزاوج بين الجبال الصخرية التي نحتتها عوامل الطبيعة، وبين الجبال الخضراء التي لا تزال تقاوم ريشة الزمن، لكن أوديتها تبوح بأسرارها عند كل منحدر، إذ تقول بأن تلك الجبال، كانت ذات يوم مهدا للثورة الجزائرية، و لاتزال جبال الأوراس تحتفظ بصندوقها الأسود. إنها تاريخ و حضارة، و هي التي كتبت مذكرات الإغريق، و رسمت لوحات الرومان، وألّفت لبداية نهاية رواية اسمها الإستعمار الفرنسي. ذهبت الحضارات و ولّت، لكنها تركت إرثا و تراثا أدخل المنطقة عالم السياحة من بابه الواسع، فمساكن الشاوية إرث أمازيغي مبعثر في الجبال الشامخات، إضافة إلى شرفات غوفي التي تشكل واحدة من نوادر الإبداع الطبيعي. أما تيمقاد ، فهي بصمة رومانية خالصة، وهي التي تعرف بمهرجانها السنوي، أين يعتلي الفنانون ركح المسرح الروماني.
وبين كلّ الحضارات، تبرز الحضارة الإسلامية بقوّة، من خلال المساجد التي تطّلع مناراتها إلى غياهب النّجوم، و ما يزيدها جمالا، هي تلك اللّمسات الهندسية التي تمنحها طابعا إسلاميّا واضحا و بعدا روحيا رائعا.
التوغل في الجزائر متعب و مرهق، و ممتع و شيق، و لا يمكن الحديث عنها دون تزيين كلامنا بالمحسنات الصحراوية، فزائرها، ما يفتؤ يدخلها حتى تستوقفه تلك الواحات الساحرة، عارضة عليه رطبها الجنية، و داعية إياه إلى استراحة خفيفة، تحت ظلالها اللطيفة، و أما إبداع الطبيعة، فيصنع من رمالها الذهبية، بطريقة عفوية، و صورة كيفية، ألواحا فنية، تتجلى في تلك الكثبان الرملية، التي تختزن شموسا حارة، تعكس حرارة ترحاب أهلها، الذين صقلت قساوة الطبيعة قلوبهم، فجعلتها متلألئة لينة كالعجين، و غرست فيهم كل معاني الطيبة و الجود. أصالتهم، تقر بأنهم كرماء، و بساطتهم توحي بأنهم رحماء، جمالهم و واحاتهم و مساكنهم، تبوح بأسرارهم، و تقول بأن كرمهم، لا يعدو أن يكون مجرد تعاليم للمدرسة الطائية الجزائرية.
الصحراء، ألبوم صور كبير، و لعل أبرز صورة، هي تلك التي يأتي لأجلها السياح من كل حدب ينسلون، يأتون لمشاهدة صورة يستحيل أن تلتقطها كاميراتهم إلا في الجزائر، و لا تذكر الطبيعة بأنها رسمت ذات يوم صورة مماثلة لها، فغروب الشمس خلف جبال الهقار، هو أروع غروب في العالم، و لو ترون كيف تتوارى الشمس عن بلادنا، و هي تودعها ببنان طرفها عنم.
و مهما طال الحديث عن الجزائر، فلا يمكن تماما أن نلم بها، حتى و إن اجتمعنا على ذلك، و كانت أشجارها أقلاما لنا، و بحارها و أنهارها مدادا لكلامنا، غير أن الأكيد، هو أننا سنقولها بالصمت، حين تضيق العبارات عن أفكارنا.